فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي الشيطان وقد ذكرنا ما فيه من المعنى اللطيف في تفسير سورة لقمان ونعيده هاهنا فنقول المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي فيغتر بأدنى شيء، وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به ولكن إذا جاءه غار وزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه، وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال الله تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} إشارة إلى الدرجة الأولى، وقال: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} إشارة إلى الثانية ليكون واقعًا في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} لما قال تعالى: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} [فاطر: 5] ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار، وقال: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} ولا تسمعوا قوله، وقوله: {فاتخذوه عَدُوًّا} أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان: أحدهما: أن يعاديه مجازاة له على معاداته والثاني: أن يذهب عداوته بإرضائه، فلما قال الله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوًّا} أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا، وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا راضيتموه واتبعتموه فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف عنده ويصبر على قتاله والصبر معه الظفر، فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه، ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه، فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان، فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة.
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}.
ثم بين الله تعالى حال حزبه وحال حزب الله.
فقال: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فالمعادي للشيطان وإن كان في الحال في عذاب ظاهر وليس بشديد، والإنسان إذا كان عاقلًا يختار العذاب المنقطع اليسير دفعًا للعذاب الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذ عرض في طريقه شوك ونار ولا يكون له بد من أحدهما يتخطى الشوك ولا يدخل النار ونسبة النار التي في الدنيا إلى النار التي في الآخرة دون نسبة الشوك إلى النار العاجلة.
وقال تعالى: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} قد ذكر تفسيره مرارًا، وبين فيه أن الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤبد مؤمن في النار، والعمل الصالح في مقابلته الأجر الكبير.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} يعني ليس من عمل سيئًا كالذي عمل صالحًا، كما قال بعد هذا بآيات {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور} [فاطر: 19] وله تعلق بما قبله وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسيء الكافر والمحسن المؤمن، وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئًا إلا قليل، فكان الكافر يقول الذي له العذاب الشديد هو الذي يتبع الشيطان وهو محمد وقومه الذين استهوتهم الجن فاتبعوها، والذي له الأجر العظيم نحن الذين دمنا على ما كان عليه آباؤنا فقال الله تعالى لستم أنتم بذلك فإن المحسن غير، ومن زين له العمل السيء فرآه حسنًا غير، بل الذين زين لهم السيء دون من أساء وعلم أنه مسيء فإن الجاهل الذي يعلم جهله والمسيء الذي يعمل سوء عمله يرجع ويتوب والذي لا يعلم يصر على الذنوب والمسيء العالم له صفة ذم بالإساءة وصفة مدح بالعلم.
والمسيء الذي يرى الإساءة إحسانًا له صفتا ذم الإساءة والجهل، ثم بين أن الكل بمشيئة الله، وقال: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} وذلك لأن الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان، والسيئة والحسنة يمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك باستقلال منهم، فلابد من الاستناد إلى إرادة الله.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حزن من إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة باهرة فقال: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم} [الكهف: 6].
ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد إيمانهم وإحسانهم لصدهم عن الضلال وردهم عن الإضلال، وإن كان لما به منهم من الإيذاء فالله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعون. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}.
هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق.
{فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} قال سعيد بن جُبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي.
{وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} قال ابن السكيت وأبو حاتم: {الغَرور} الشيطان.
وغرور جمع غَرّ، وغَرٌّ مصدر.
ويكون {الغَرور} مصدرًا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق؛ لأن غررته متعدّ، والمصدر المتعدّي إنما هو على فَعْل؛ نحو: ضربته ضربًا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها؛ قالوا: لزمْته لُزومًا، ونَهَكه المرض نُهوكًا.
فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنّى على الله المغفرة.
وقراءة العامة {الغَرور} بفتح الغين وهو الشيطان؛ أي لا يغرّنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم.
وقرأ أبو حَيْوة وأبو السَّمّال العدويّ ومحمد بن السَّمَيْقَع {الغُرور} برفع الغين وهو الباطل؛ أي لا يغرّنكم الباطل.
وقال ابن السكيت: والغُرور بالضم ما اغترّ به من متاع الدنيا.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون الغرور جمع غارّ؛ مثل قاعد وقعود.
النحاس: أو جمع غَرّ، أو يُشبّه بقولهم: نهكه المرض نهوكًا ولزمه لزومًا.
الزمخشريّ: أو مصدر غره كاللزوم والنهوك.
قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} أي فعادوه ولا تطيعوه.
ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: 119] الآية.
وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 16 17] الآية.
فأخبرنا جل وعز أن الشيطان لنا عدوّ مبين، واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وكيف انتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، وكان الفضيل بن عِياض يقول: يا كذاب يا مُفْتَرٍ، اتق الله ولا تَسُبَّ الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر.
وقال ابن السماك: يا عجبًا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! وقد مضى هذا المعنى في البقرة مجوَّدًا.
و{عدُوّ} في قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} يجوز أن يكون بمعنى معادٍ، فيثنّى ويجمع ويؤنث.
ويكون بمعنى النسب فيكون موحدًا بكل حال؛ كما قال جل وعز: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77].
وفي المؤنث على هذا أيضًا عدوّ.
النحاس: فأما قول بعض النحويين إن الواو خفية فجاءوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد.
{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} كفّت ما أن عن العمل فوقع بعدها الفعل.
{حِزْبَهُ} أي أشياعه.
{لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} فهذه عداوته.
{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يكون {الَّذِينَ} بدلًا {مِنْ أَصْحَابِ} فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلًا من {حِزْبَه} فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلًا من الواو فيكون في موضع رفع.
وقول رابع وهو أحسنها: يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وكأنه سبحانه بيّن حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد تَمّ في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ السعير} ثم ابتدأ فقال: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.
{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} في موضع رفع بالابتداء أيضًا، وخبره {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أي لذنوبهم.
{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنة.
قوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} مَن في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف.
قال الكسائي: والذي يدلّ عليه قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا ذهبت نفسك عليهم حسرات.
قال: وهذا كلام عربيّ طريف لا يعرفه إلا قليل.
وذكره الزمخشريّ عن الزجاج.
قال النحاس: والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيّه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال جل وعز: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قال أهل التفسير: قاتِل.
قال نصر بن عليّ: سألت الأصمعيّ عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن: «هم أرقُّ قلوبًا وأبخع طاعةً» ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح.
فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدًا وغيرَه يقولون في قول الله عز وجل: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}: معناه قاتِل نفسك.
فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه.
وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حَسَنًا، فلا تَذْهب نفسُك عليهم حسرات، فإن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
وقيل: الجواب محذوف؛ المعنى أفمن زين له سوءُ عمله كمن هدى، ويكون يدل على هذا المحذوف {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}.
وقرأ يزيد بن القَعْقاع: {فَلاَ تُذْهِبْ نَفْسَك} وفي {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس؛ قاله أبو قِلابة.
ويكون {سُوءُ عَمَلِهِ} معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أنهم الخوارج؛ رواه عمر بن القاسم.
فيكون {سُوءُ عَمَلِهِ} تحريف التأويل.
الثالث: الشيطان؛ قاله الحسن.
ويكون {سُوءُ عَمَلِهِ} الإغواء.
الرابع: كفار قريش؛ قاله الكلبي.
ويكون {سُوءُ عَمَلِهِ} الشرك.
وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السَّهْمِي والأسود بن المطلب.
وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام.
{فَرَآهُ حَسَنًا} أي صوابًا؛ قاله الكلبيّ.
وقيل: جميلًا.
قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال؛ لقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، وقوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} [آل عمران: 176]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقوله في هذه الآية: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.
وهذا ظاهر بيّن، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله أضلهم.
وهذه الآية تردّ على القدرية قولهم على ما تقدم؛ أي أفمن زُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ.
وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن مُحَيْصن: {فَلاَ تُذهِب} بضم التاء وكسر الهاء {نفسَك} نصبًا على المفعول، والمعنيان متقاربان.
{حَسَرَاتٍ} منصوب مفعول من أجله؛ أي فلا تذهب نفسك للحسرات.
و{عَلَيْهم} صلة {تذهب}، كما تقول: هلك عليه حُبًّا ومات عليه حزنًا.
وهو بيان للمتحسر عليه.
ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته.
ويجوز أن يكون حالًا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر؛ كما قال جرير:
مَشقَ الهواجِرُ لحمَهُنَّ مع السُّرَى ** حتى ذَهَبْنَ كَلا كِلًا وَصُدُورا

يريد: رجعن كَلاَ كِلًا وصدورًا؛ أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها.
ومنه قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسِي ** حسرات وذكرهم لي سقام

أو مصدرًا.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. اهـ.